الاثنين، 24 أغسطس 2009

مضمار الصالحين

افتخر النهار علي الليل قائلاً : أنا وقت النشاط و العمل و البناء و النماء بل أنا الحياة على الحقيقة في ساعاتي انتصر جند الله على مر العصور فسائل عني طلائع الفتوح و بشائر النصر و بي أقسم الله في كتابه فقال : { و النهار إذا تجلى } .اغتر النهار بصمت الليل و سكونه فتمادى في الفخر و حقره قائلاً : أما أنت فزمان الكسل و الخمول و الدعة فأوقاتك تُعمر بالنائمين الخاملين , أنت بيت الذعر و الخوف فبك يفرح اللصوص و أرباب الجرائم .انتفض الليل من سكونه و نطق قائلاً : أنا زمن السكون و الراحة جعلني الله سكناً و لباساً لعباده , أنا مأوى العُبَّاد و أرباب الإحسان فلهم معي أحاديث و أسمار ، كم فرح بي ألأنبياء و الأتقياء و الصالحون و كم كان سوادي ستراً لمسرى الأنبياء أحرسهم من أعين الأعداء , أسحاري لذة العارفين و سلوة الخائفين و ملاذ المذنبين , أقسم الله بي في القرآن بل سميت بي سورة من سوه ، في ثلثي الأخير ينزل الرب جل وعلا .طأطأ النهار رأسه خجلاً و حياءً و اتجه إلى الليل يقبل رأسه و يعترف له بالفضل. إنه الليل مضمار الصالحين فيه يصفُّ أهل الحب الصادق أقدامهم بين يدي سيدهم جل ذكره فيه تكون لذة المناجاة و جميل التضرع و حلاوة الاستغفار : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} ، و فيه يفرح المخلصون فهو وقتهم الذهبي للمسارة بالعمل .. فيه أزمنة شريفة ، فيه ينزل الرب إلى السماء الدنيا جل وعز ، فتفتح أبواب الرحمات وتجاب الدعوات ، وتقال العثرات قلت للــيل هل بجوفك ســر عابق بالحديث والأسرارقال لي : لم ألق في حياتي حديثاً كحديث السمار في الأسحار[يا ليل كم من توبة فيك رفعت وقبلت يا ليل كم من رقبة فيك أعتقت يا ليل كم من هائم فيك وجد بغيته ياليل كم للمحبين فيك من أسرار وللصادقين فيك من أخبار] الليل له مع النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و الصالحين و الأخيار من بعدهم قصص و أخبار يقول عز وجل لرسوله و مصطفاه (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) فامتثل الحبيب عليه الصلاة والسلام أمر ربه فقام وأطال في القيام ، وبكى وأطال في البكاء .عن عطاء قال : دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال عبد الله بن عمير : حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت : قام ليلة من الليالي فقال : يا عائشة ! ذريني أتعبد لربي قالت : قلت : والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت : فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله ! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ ! قال : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها : { إن في خلق السماوات والأرض } رواه ابن حبان و صححه الألباني .وصف الله الصالحين من عباده في الليل فقال (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فكانت بيوتهم في ظلام الليل مدارس تلاوة وجامعات تربية ، ومعاهد إيمان حتى أن أحدهم يكون في حراسة جيش المسلمين فيأسره سواد الليل فلا يملك نفسه إلا أن يصف قدميه متهجداً لله ، فهذا عباد بن بشر يكون حارساً للجيش في الخلاء فيسحره سكون الليل و هدأة الناس فلا يملك نفسه من أن يصف قدميه لله قائماً و ساجداً يترنم بالقرآن فيبصره العدو و يرسل إليه سهماً و عباد يترنم بسورة الكهف فيصيبه السهم فينزعه و يسترسل في صلاته فتتابعت عليه السهام فيوقظ صاحبه فيقول له سبحان الله أفلا أيقظتني قال كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها و أيم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها. و عن عائشة رضي الله عنها قالت في حديث الهجرة الطويل : (ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن ) رواه البخاري و عن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلن يصلي ما شاء الله حتى إذا كان آخر الليل يعظ أهله يقول : الصلاة الصلاة و يتلوا : { و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها } ) رواه أبو داود قال الحافظ ابن كثير عن ليل عمر : [ كان يصلي بالناس العشاء ثم يدخل بيته ، فلا يزال يصلي إلى الفجر ]لقد كان الصالحون يتلذذون بالليل و قدومه فلا تسل عن فرحهم إذا ظفروا به لسان حالهم (حبيب جاء على فاقة ) . قال أبو سليمان الدارني رحمه الله : أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم و لولا الليل ما أحببت الدنيا .وقال ثابت البناني رحمه الله : ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل .وقال بعض السلف : إني لأفرح بالليل حين يقبل لما يلّتذ به عيشي وتقر به عيني من مناجاة من أحب وخلوتي بخدمته والتذلل بين يديه .و قال عمر بن ذر رحمه الله: لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم ونظروا إلى أهل السآمة والغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم من الضجعة والنوم قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عبادة السهر وطول التهجد فاستقبلوا الليل بأبدانهم وباشروا ظلمته بصفاح وجوههم فانقضى عنهم الليل وما انقضت لذتهم من التلاوة ولا ملت أبدانهم من طول العبادة فأصبح الفريقان وقد ولى عنهم الليل بربح وغبن أصبح هؤلاء قد ملوا النوم والراحة وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعبادة شتان ما بين الفريقين .قيل للحسن ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها فقال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره .و قيل لحسان بن سنان رحمه الله ما تشتهي ؟ قال : ليلة بعيدة الطرفين أحيي ما بين طرفيها .وقال بعض العلماء : لذة المناجاة ليست من الدنيا إنما هي من الجنة أظهرها الله تعالى لأوليائه لا يجدها سواهم. وقال ابن المنكدر رحمه الله : ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث قيام الليل ولقاء الإخوان والصلاة في الجماعة .أخي تلك نعمة ولذة ربما حرمنها على مدار العام و من رحمة الله بنا أن بلّغنا شهر رمضان لنتذوق ذلك النعيم فلا أقل من أن نتشبه بأولئك القوم في شهر رمضان لعل الله أن يلحقنا بهم فدونك شهر رمضان ، دونك وقت السحر وقت النزول الإلهي , دونك مضمار الربح فلا تضيع الفرصة فقد كان صلى الله عليه و سلم و أصحابه و الصالحون من بعدهم يبتهلون ليالي شهر رمضان و يشغلونها بأنواع العبادات فدونك مضمار الصالحين .

الأحد، 16 أغسطس 2009

آلهم بلغنا رمضان


دعاء يشق عنان السماء منذ قرابة الشهرين، ينطلق من قلوب المشتاقين إلى رمضان وليالي رمضان ومساجد رمضان وإلى الصيام والقيام وصلة الأرحام.

دعاء تعلمناه من رسولنا العظيم- صلى الله عليه وسلم- الذي عاش الأنس بالله في رمضان، وعرف حلاوةَ التهجد والمناجاة في رمضان، وأنزل الله عليه القرآن في ليلةٍ مباركةٍ من ليالي رمضان، وكان يجتهد في رمضان أكثر مما يجتهد في غيره.

دعاء مَن يعلم أن رمضان محطة للتزود لباقي العام ولشحن بطارية الإيمان عسى أن ينظر الله إلينا نظرةَ رحمة في أول ليالي رمضان فنسعد بها طوال الشهر العظيم، ثم تكتمل سعادتنا بطاعة الله إلى رمضان المقبل؛ حيث تعلمننا من رسولنا صلى الله عليه وسلم أن رمضان إلى رمضان والجمعة الى الجمعة والعمرة الى العمرة مكفرات لما بينها من الذنوب ما اجتنبنا الكبائر.

دعاء مَن يعلم أن الأرواح والنفوس بيد الله تعالى، وأن الأعمار مقدرة عند الله عز وجل، وأن الصحة والسقم هما ابتلاءٌ من الله للعبد، بالخير والشر فتنة، وأن الإقامة والسفر هي من قدر الله عز وجل، فيريد أن يتم الله عليه نعمته فيرى طلعة الهلال وهو صحيح مقيم مؤمن مقبل على طاعة الله، مشتاقٌ للقرآن والصلاة وصلة الأرحام وبر الفقراء والإحسان إلى المساكين وإخراج الزكاة والتزود من النوافل؛ حيث ثواب النافلة كثواب الفريضة عند الله في رمضان.

دعاء مَن ينتظر رمضان إلى رمضان، لينفض غبار الكسل ويعالج ضعف الهمة، ويخرج من طور الفتور إلى النشاط والعزم والفتوة، فيعد لرمضان العدة وينوي نيةً صالحةً، ويتوب إلى الله تعالى توبةً نصوحًا قبل رمضان، فيدخل الشهر وهو كامل العدة وعلى أتمِّ استعدادٍ للتزود من رمضان، فلا تضيع منه لحظةً واحدةً من اللحظات الثمينة التي يُضاعف الله فيها الحسنات، ولا تمر أيام وليالي رمضان عليه قبل أن تكتمل أهبته وتقوى عزيمته، فتمر الليالي سراعًا، وينقضي الشهر مهرولاً، وهو ما زال يعيش بين الأماني الخادعة وسراب التمنيات.

ها هي الأيام انقضت، وكرت شهور العام سريعًا ليقبل علينا رمضان من جديد، ونتطلع بعد أيامٍ إلى هلال الشهر الكريم، فهل وقفنا مع أنفسنا وقفةَ حسابٍ لنجرد حسناتنا وسيئاتنا خلال عامٍ انقضى فنحمد الله تعالى على ما منَّ به علينا من طاعةٍ وتفضل به علينا من نعم، فنوفي حقَّ الله علينا ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ (إبراهيم: من الآية7)، ونتوب إلى الله تعالى عن ذنوبنا وتقصيرنا في حقِّه ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: من الآية 31).

فنستقبل رمضان بصفحةٍ بيضاء؛ حيث يتوب الله على مَن تاب، ويقبل الله التائبين، فالتائب من الذنب كمَن لا ذنب له.

علمنا رسولنا- صلى الله عليه وسلم- أن الكيّس مَن دان نفسه، وها هي محطة سنوية للحساب والمراجعة، قبيل رمضان، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم وتهيأوا للعرض على الله.

مع كل صلاة، وفي كلِّ قنوتٍ ترتفع أكفَّ الضراعة إلى الله في السجود والقنوت تدعوه أن يبلغنا رمضان، فهلا أعددنا أنفسنا لرمضان، وهل رتبنا أوقاتنا في رمضان، وهل خططنا لأيام وليالي رمضان بحيث لا تضيع منا الفرص العظيمة والأوقات الثمينة.

رمضان شهرٌ للصوم والقرآن، رمضان شهر للصلاة والتهجد والقيام.
رمضان شهرٌ لصلة الأرحام وزيارة الجيران.

رمضان شهرٌ للبر والإحسان، والزكوات والصدقات، رمضان شهرٌ للمدارسة والمذاكرة والقراءة والاطلاع.

رمضان ليس شهرًا للطعام والشراب والمسلسلات، بل هو شهرٌ للصوم والعطش والجوع والحرمان.

رمضان ليس شهرًا للجلوس أمام التلفاز وقضاء الوقت مع المسلسلات بل هو شهرٌ للعكوفِ على القرآن تلاوةً وحفظًا وفهمًا وتدبرًا، رمضان ليس شهرًا للتسكع في الطرقات واللهو طوال الليل والجلوس في المقاهي والكافيهات، بل هو شهر تصطف فيه الأقدام في المحاريب في المساجد والبيوت ركعًا سجدًا بين يدي الله.

رمضان شهرٌ يُذكِّرنا بوحدة الأمة الإسلامية وعالمية الدعوة المحمدية، فهناك أمة واحدة تصوم الشهر الكريم- مهما اختلفت في بداية شهر الصوم-، وتقوم لله رب العالمين، ربها الواحد الأحد، وتتجه إليه مع غروب كل شمس تتذكر نعمته عليها أن هداها للإسلام ولطاعته، فله صامت، وعلى رزقه أفطرت وجنته ترجو، ومغفرته ورحمته غاية رضاها، وعليه تتوكل، ترجو رحمته وتخشى عذابه، وتطلب منه أن يخرجها من الظلم إلى العدل، ومن الشقاء إلى الرحمة، ومن الاستبداد إلى الحرية، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الذل إلى العزة ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: من الآية 8).

ها هو رمضان أقبل، فأروا الله منكم خيرًا، وتوبوا إليه واستغفروه وصوموا صومًا حقيقيًّا خالصًا لله رب العالمين، وقوموا لله قانتين وأقبلوا على القرآن العظيم، وأحسنوا للفقراء والمساكين، وتذكروا إخوانكم المستضعفين في العراق وفلسطين وكونوا بمشاعركم ودعائكم مع المجاهدين الصامدين في وجه الاحتلال في كل مكان.

واجتهدوا في العمل والدعاء وبذل الجهد والطاقة من أجل وحدة المسلمين في كل بقاع الأرض، هؤلاء الذين وحَّدهم رمضان والصيام، فمتى ينبذوا الفرقة والاختلاف ليكونوا يدًا واحدةً على عدوهم المتربص بهم.

رمضان شهر العمل والإنتاج وليس شهر النوم والكسل والقعود.. فاعملوا وابذلوا وأروا الله منكم خيرًا.. تقبل الله منا ومنكم، وكل عام وأنتم بخير.
د عصام العريان

الجمعة، 14 أغسطس 2009

معالم تربوية من السيرة النبوية

من أجدر ما يربي به العبد نفسه وغيره سيرته صلى الله عليه وسلم، ففيها معالم عظيمة يهتدي بها المربون.. ونختار بعض الحوادث والوقائع, ونبيّن ما نستفيده منها من دروس نافعة في تربية أنفسنا وغيرنا.. في تعاملاتنا وعلاقاتنا وسائر أحوالنا, حتى نكون على مستوى أدب هذا الدين الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليزكينا من كل المساوئ والمنكرات.. وقضية الأدب والخلق قضية عظيمة في هذا الدين، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، ولذا كان السابقون من السلف الصالح يحرصون أشد الحرص على تأديب أنفسهم بأدب الإسلام في كل شيء، وكانوا يقدمون الأدب قبل العلم.. قال ابن المبارك رحمه الله: تعلمت الأدب ثلاثين سنة وتعلمت العلم عشرين سنة. وقال الحسن البصري رحمة الله: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين.وقال ابن سيرين رحمة الله: كانوا ـ أي الصحابة رضوان الله عليهم ـ يتعلمون الهدي ـ أي السيرة والهيئة والطريقة ـ كما يتعلمون العلم.وقال حبيب ابن الشهيد الفقيه لابنه: يا بني, اصحب الفقهاء والعلماء وتعلم منهم وخذ من أدبهم، فإن ذلك أحب إليّ من كثير من الحديث.وقال بعضهم لابنه: يا بني, لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم.وقال مخلد بن الحسين ـ المتوفى سنة 191هـ ـ لابن المبارك رحمه الله: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث. يقول ذلك في القرون المفضلة, فكيف لو رأى سوء أدبنا في هذا الزمان.وقيل للشافعي رحمه الله: كيف شهوتك للأدب؟ فقال: أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه فتود أعضائي أن لها أسماعًا فتنعم به. قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره. وقال رحمه الله: ليس العلم بما حُفظ، العلم ما نفع. فهلموا نتعلم شيئًا من الأدب من هديه صلى الله عليه وسلم... ونبدأ بما رواه مسلم في صحيحه:1- روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت, أي لم يخالطوهن ولم يساكنوهن في بيت واحد، فسأل أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222). فقال صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح))، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا, أفلا نجامعهن؟! ـ لعلهما قصدا, والله أعلم, إمعانًا في مخالفتهم ـ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ لأن ما ذكراه غير ممكن شرعًا وغير لائق طبعًا وعقلاً، فلا يمكن الترخيص فيه بحجة المخالفة لليهود ـ حتى ظننا أن قد وجد عليهما ـ أي غضب ـ فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أنه لم يجد عليهما. شرح النووي (3/211، 212).فتأمل كيف كان صلى الله عليه وسلم مراعيًا لنفسيْ صاحبيه، حريصًا على أن يدفع عنهما ما قد يصيبهما من تغير أو ضيق أو حزن لا موجب أو لا سبب له في الحقيقة، وإنما يؤدي ظاهر بعض المواقف أحيانًا إلى شيء من هذا، حيث تفهم خطأ فيحسن سرعة إزالة الالتباس والآثار الناتجة من هذا؛ لتبقى النفوس صافية منشرحة، وهنا طيّب صلى الله عليه وسلم نفوسهما بهذه الطريقة العملية اللطيفة، حيث أرسل من يدرك الرجلين ليأتي بهما ليشربا من هذا اللبن الذي أهدي إليه صلى الله عليه وسلم، فعرف الرجلان أنه صلى الله عليه وسلم لم يغضب منهما.ـ ومثل هذه المواقف يتكرر كثيرًا.. حيث يحزن البعض بسبب موقف ما، وعند التمحيص لا تجد أحدًا مخطئًا، ولكن ربما تصرف البعض في هذا الموقف تصرفًا ظاهره قد يوحي بالإساءة لفلان وهو في الحقيقة ليس كذلك.. فيحزن فلان، والأول يصر على عدم إزالة الحزن عنه بحجة أنه لم يخطئ في حقه, ويسعى الشيطان في زيادة الشر والوحشة بينهما، لذا فمن أحسّ من نفسه في موقف ما أنه بدر منه شيء ما من تعبيرات أو نظرات أو تصرفات يحتمل أن تفهم على أنها إساءة، فينبغي عليه سرعة إزالة ذلك؛ إما ببيان حقيقة الأمر أو بأية طريقة عملية كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يترك المجال للشيطان. ومن الأمور العجيبة أنك تكون أحيانًا في مجلس عند شخص ما، وإذا بذلك الشخص يكثر التأفف والتضجر والنفخ حتى تكاد تجزم وبتحريض من الشيطان أنك المقصود بهذا التضجر، وتكون الحقيقية غير ذلك، وإنما هذا الشخص لديه مشكلة ما أو يفكر في أمر ما لم تطلع عليه، وهو يتأفف منه، ولا يدور في باله أن يبيّن لك حقيقة الأمر، وللأسف كأنه وحده، ولا يراعي جلساءه ولا يراعي شعورهم, ولا يلتفت إلى ما يمكن أن يحدثه الشيطان بسبب ذلك.. وذلك من عدم الأدب، وأقل الأمور أن يعتذر ويبيّن لهم أن هناك أمرًا لا يتعلق بهم، أو أن يكفّ عن تأففه ونفخه في وجوههم إلى أن ينصرفوا.. وما أعظم خلقه صلى الله عليه وسلم ـ بأبي هو وأمي ـ إذ يقول عنه خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أفٍّ قط).ومن هديه صلى الله عليه وسلم في تطييب نفوس أصحابه وتأليفهم والمبادرة لإزالة ما علق بها من تغيُّر نتيجة لفهم خاطئ ما حكاه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في غزوة حنين أو أوطاس أو هوازن حين أعطى رسول الله العطايا للمؤلفة قلوبهم من قريش ومن قبائل العرب ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة ـ أي الكلام ـ حتى قال قائلهم: لقي والله رسول صلى الله عليه وسلم قومه ـ ولاشك أن هذا كان سوء فهم من قائله وخطأ في حقه صلى الله عليه وسلم ـ فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك ـ غضبوا ـ في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في الحي من الأنصار منها شيء. قال: ((فأين أنت من ذلك يا سعد؟)) قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)) ؟ قال: فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا، أتى سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((يا معشر الأنصار, مقالة بلغتني عنكم، وجِدَةٌ وجدتموها عليّ في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداءً فألف بين قلوبكم؟)) قالوا: الله ورسوله أمنّ وأفضل. ثم قال: ((ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟)) قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المنّ والفضل. قال: ((أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدَقتم ولصُدِّقتم: أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيانك)) ـ وهذا من أعظم الأدب وهو عدم تجاهل أدلة المخالف وحججه ولو كانت غير قوية استغلالاً لحيائه أو غفلته عنها, بل تعترف بها وتصرح بما له ـ ((أوجدتم علي يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وواديًا، وسلكت الأنصار شعبًا وواديًا لسلكت شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار، والناس دثار , اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار)) قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول صلى الله عليه وسلم قسمًا وحظًا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا . وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار)) غاية الأدب والتواضع والتطييب لنفوسهم، فإن العلماء قالوا: إن المهاجرين على وجه الجملة أفضل من الأنصار، ففي كلامه صلى الله عليه وسلم تأليف عظيم لقلوبهم وشرف لهم، قال الخطابي: أراد بهذا الكلام تألّف الأنصار واستطابه نفوسهم والثناء عليهم في دينهم حتى رضي أن يكون واحدًا منهم لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها.. فما أروع خلقه وأدبه صلى الله عليه وسلم, وصدق الله الكريم إذ يقول في حقه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].2ـ روى البخاري عن خالد بن ذكوان قال: قالت الرُّبيّع بنت معوِّذ بن عفراء: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل حين بُني عليّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني ، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قُتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبيٌّ يعلم ما في غدفقال: ((دعي هذا، وقولي بالذي كنت تقولين))، وزاد في رواية: ((لا يعلم ما في غد إلا الله)).فهذه الحادثة فيها الترفق بالعوام ومراعاة ذلك في أمرهم ونهيهم، فإنهم في كثير من الأحيان تخالط أخطاءهم طيبة في قلوبهم. وهنا صحح الرسول صلى الله عليه وسلم الخطأ لكن بهذه الصورة الرقيقة الخالية من الغلظة والزجر، وذلك لأن الخطأ لم يكن مقصودًا.. ومراعاة لحال المخطئ من الجهل مع طيبة القلب. فقال عليه الصلاة والسلام: ((دعي هذا، وقولي بالذي كنت تقولين))، وهذه الكلمة الأخيرة لا تخلو من تلطف وإزالة للحرج، فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينهرها ويأمرها بالسكوت مطلقًا بعد أن أخطأت ذلك الخطأ، وإنما أرشدها لترك ذلك الإطراء الخاطئ، وسمح لها بالمضي في غيره، وإن كان مدحًا له صلى الله عليه وسلم ما دام خاليًا من الغلو والمجازفات. قال ابن حجر رحمه الله: وفيه ـ أي في الحديث ـ من الفوائد: إقبال الإمام إلى العرس وإن كان فيه لهو ما لم يخرج عن حد المباح ـ ومن المعلوم أنه يجوز من اللهو في العرس ضرب النساء دون الرجال على الدفوف دون غيرها من المعازف ـ وفيه جواز مدح الرجل في وجهه ما لم يخرج إلى ما ليس فيه. اهـ.وروى البخاري ومسلم والنسائي وأحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإنما عنده مثل الهدبة ، وأخذت هدبة من جلبابها. وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ولم يؤذن له، فقال: يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبسم.هذا الحديث فيه موقف تربوي لطيف نستفيد منه في معاملاتنا وكلامنا مع كثير من العوام والبسطاء الذين يجهرون أحيانًا بأمور يتحرج غيرهم من التلفظ بها، فقد يكون المشروع معهم في مثل ذلك الحال المداراة لا الإنكار ما دام الأمر لم يخرج إلى حد المخالفة الشرعية, ويغتقر للعوام كثير من أساليب الكلام التي لو استخدمها مثلاً طالب العلم أو الداعية لم يكن لائقًا به.. وهنا أتت هذه المرأة تشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم حالها مع زوجها الذي لا يحسن جماعها, فتكلمت على سجيتها ووصفت الحال كما في الحديث, ما أزعج خالد بن سعيد رضي الله عنه.. ولكنه صلى الله عليه وسلم ما زاد على التبسم ، فكل إنسان له قدرة على التعبير، والعامي قد لا تسعفه لغته في التكنية والتورية عما يخجل من التفوه به, فيسامَحون في ذلك ما داموا لم يرتكبوا مخالفة شرعية, فحينئذ يصحح لهم خطؤهم أو تترك مجالستهم.3ـ وروى أبو داود وأحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح إلا عمارة بن خزيمة وهو ثقة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي, فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه, فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه, حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته. فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي قال: ((أوليس قد ابتعته منك؟)) قال الأعرابي: لا والله ما بعتك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بل قد ابتعته منك))، فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي يقول: هلمّ شهيدًا يشهد أني بايعتك، فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقًّا. حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي، يقول: هلمّ شهيدًا يشهد أني بايعتك. قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: ((بم تشهد؟)) فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.لو فقهنا هذا الحديث العظيم, وهذا الخلق والأدب الجم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعرف كل منا ما له وما عليه، ففي هذه الأيام كل منا اعتقد في نفسه فضلاً أو شرفًا أو علمًا، والكل ـ إلا من رحم الله ـ للأسف يعتقد في نفسه ذلك، أقول: من اعتقد في نفسه شيئًا من ذلك أحب أن يحصل على حقوقه هكذا دون بينة ويستكبر أن يطلب منه دليل على ما يقول؛ لأنه المعصوم المقدس, ويستنكف أن يعترض أحد كما اعترض ذلك الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم, ما أصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحلمه وذلك الأعرابي يتجاهل البيع الذي تم، ويهدد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يدفع الثمن الأكثر وإلا لم يبع له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أوليس قد ابتعته منك؟))، والأعرابي الكاذب يحلف أن لا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسبه ولا يردد أكثر من قوله: ((بل قد ابتعته منك)).. نعم فما كان ليأخذ الفرس ويمضي البيع بسلطانه، فكيف وهو يقول للناس: ((لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى رجال أموال قوم ودماءهم))، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر, وكون رسول الله صلى الله عليه وسلم صادقًا في حقيقة الأمر, إلا أنه والجميع مقيدون بأحكام الشرع، والناس لهم الظاهر, ورسول الله صلى الله عليه وسلم مطالب بالبينة على ما يقول, فما أحلمه صلى الله عليه وسلم وما أوسع صدره.. لم يكن جبّارًا عليه الصلاة والسلام ولا متكبرًا ولا مغرورًا.. ما أصبره صلى الله عليه وسلم على هذا الأعرابي.. وما أعظم امتثاله وتقيده كغيره بأحكام الشرع وحدوده عند المنازعة على شيء. ثم ما أعظم ورع الصحابة والتزامهم الحق.. فهم يعلمون يقينًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقًا، ولكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا شاهدين, لذا فكان من جاء منهم لم يزد على أن يقول للأعرابي: ويلك! إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلا حقًا. حتى جاء خزيمة وباجتهاده في المسألة عرف أنه يجوز الشهادة على حدوث ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يره لِما قام من الأدلة القاطعة على صدقه صلى الله عليه وسلم وانتفاء الكذب عنه صلى الله عليه وسلم، ولولا أن الله ساق خزيمة في هذا الوقت للإدلاء بهذه الشهادة ما ألزم النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي بشيء. فهل نستفيد من ذلك أن نطهر أنفسنا من الجبروت والغرور والكبر وإدعاء العصمة.. اليوم في كل منازعة يريد منك كل طرف من الطرفين أن يلزمك بتصديقه دون نقاش, ويغضب غضبًا شديدًا بمجرد شعوره أنك تفكر في بينة، أو أنك تريد أن تسمع من خصمه كما سمعت منه.. وقد يكون أقل تقوى وأدبًا من خصمه, ولكنه كأنما اعتقد في نفسه العصمة, ويريد أن يجعل لنفسه من الحقوق ما لم يجعله صلى الله عليه وسلم لنفسه. الحقيقة أننا بهذا نريد أن نكون جبابرة لا هداة مهتدين. وربما وجدنا كذلك أن البعض لا يتحملون أن يناقشهم أحد فيما يقولونه، يريدون أن يؤخذ كلامهم كالقرآن, ويكرهون أن يراجعهم أحد في شيء, بل ربما كره بعض المعلمين ذكاء المتعلم وحقدوا عليه وغاروا منه، بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعًا واسع الصدر, مع ما له من المكانة العالية عند الله جل وعلا، وكان يقول الشيء فيراجعه فيه أصحابه فلا يضيق بهم, بل يبين لهم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من نوقش الحساب عذب))، فقالت عائشة رضي الله عنها: أوليس الله تعالى يقول: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب عذب)) ـ أو كما قال صلى الله عليه وسلم. ولما قال عليه الصلاة والسلام: ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً))، قالت رضي الله عنها: ينظر بعضهم إلى عورة بعض؟! قال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37]. ولما أتاه أعرابي فجذبه من ردائه وقال: يا محمد أعطني من مال الله، فإنه ليس مال أبيك ولا مال أمك, لم يزل صلى الله عليه وسلم يعطيه حتى رضي. وقال أنس رضي الله عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍ قط. فما أحلمه صلى الله عليه وسلم, وما أوسع صدره!! ولما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبية على أن من أسلم منهم رده صلى الله عليه وسلم إليهم, ومن ارتد لم يردوه إليه. فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله أولسنا بالمسلمين؟ فلا يضيق به صلى الله عليه وسلم, بل يجيبه: ((بلى))، فيقول عمر: أوليسوا بالمشركين؟ فيسترسل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجيبه: ((بلى))، فيقول عمر: فلمَ نعطي الدنية في ديننا؟!بل تأمّل حلمه العظيم صلى الله عليه وسلم وتحمله للجفاء والاستسفارات الغاضبة المندفعة فيما رواه البخاري عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أُبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسأله أن يعطيه قمصيه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما خيرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، وسأزيده على السبعين)) قال: إنه منافق. قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84].وللإمام أحمد عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما توفي عبد الله بن عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فقام إليه, فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره، فقلت: يا رسول الله، أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم كذا كذا وكذا ـ يعدد أيامه؟ قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: ((أخر عني يا عمر، إني خيرت فاخترت، قد قيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ...} الآية. لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت))، قال: ثم صلى ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه. قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم. (وانظر ابن كثير 2/362).والحديث ليس بحاجة إلى تعليق.. ولا يبقى إلا أن نقول: هل لنا أن نطهر أنفسنا من الكبر والتعالي، وهل تتسع صدورنا لبعضنا؟! وهل نتحمل الاستفسارات والاعتراضات، وهل نتحلى بالحلم والتواضع والعفو والصبر ونتأسى بشمائله صلى الله عليه وسلم ونهتدي بهديه.. اللهم أعنّا على ذلك.. وأصلح فساد قلوبنا.. وتوفنا على ما توفيت عليه محمدًا صلى الله عليه وسلم وصحبه. د هشام عقدة

الخميس، 13 أغسطس 2009

من لوازم الحكم على الآخرين : سلامة القلب والتجرد من الهوى


إن محاولة تقويم أي رجل من الرجال أو مؤلَّف من المؤلَّفات بمقررات سابقة وخلفيات مبيتة تجعل الإنسان يميل عن الحق ميلاً واضحًا، فهو لا ينظر إلى المرء بمجموع أعماله, بل يتغاضى عن المحاسن, ولا يقع بين عينيه إلا الهفوات، بل قد يعطيها أكثر مما تستحق من النقد والتجريح.لذا كان التجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صوابًا أو قريبًا من الصواب. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}. وكما يجب التجرد من هوى العداوة والبغضاء في النقد فإنه يجب التجرد من هوى الحب في المدح, وكما لا يجوز التحامل فإنه لا تجوز المحاباة. قال شعبة: "لو حابيت أحدًا لحابيت هشام بن حسان، كان ختني ولم يكن يحفظ".وسئل علي بن المديني عن أبيه فقال: "سلوا غيري". فأعادوا فأطرق، ثم رفع رأسه فقال: "هو الدين".وكان أبو داود السجتساني يكذّب ابنه. وقال عبيد الله بن عمرو: قال لي زيد بن أبي أُنيسة: "لا تكتب عن أخي؛ فإنه كذاب".وتدبروا أيها الإخوة وصية الله لنبيه داود عليه السلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.فلا ينبغي أن تكون المحبة لشخص أو البغضاء له دافعًا إلى إهمال العدل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. والقلب إن لم يسلم من التأثر بهذه العواطف القلبية فلابد من الخطأ في التقويم.قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن المعلوم أن مجرد نفور النافرين، أو محبة الموافقين، لا يدل على صحة قول ولا فساده, إلا إذا كان ذلك بهدى من الله, بل الاستدلال بذلك استدلال باتباع الهوى بغير هدى من الله؛ فإن اتّباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، وردّ القول والفعل الذي يبغضه بلا هدى من الله".وقال أيضًا رحمه الله: "وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك, ولا يطلبه, ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله, بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه, ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وأنه الحق، وهو الدين".
اقصد وجه الله والنصح للمسلمينوبهذا يتبين أن التجرد في القول والعمل وسلامة المقصد أصل مهم في تقويم الرجال وأعمالهم، حتى لو كان رأي الإنسان صحيحًا, لكنه لم يقصد به وجه الله تعالى ثم النصح للمسلمين؛ فإن عمله مردود غير مقبول, وهو مأزور غير مأجور إذا لم يتجاوز عنه ربه؛ قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}.قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم, إن لم يقصد منه بيان الحق وهدى الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحًا، وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد كما في نصوص الوعيد وغيرها. وقد يهجر الرجل عقوبةً وتعزيزًا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام, كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذين خلّفوا في غزوة تبوك".فعلى الإنسان المسلم أن يفتش في قلبه ويطهّره من جميع آثار الهوى قبل أن يبدأ في تقويم شخص من الأشخاص أو كتاب من الكتب؛ لكي يكون متين الرأي منصفًا, بعيدًا عن الجور والظلم المذموم شرعًا، وذلك أن صاحب هذا القلب الطاهر السليم مطمئن البال, هادئ النفس, يحب الخير للناس, ويبذل النصح لهم, وهذه هي صفات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين مدحهم الله عز وجل بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.ومثل هذا يُلقى له القبول بين الناس حتى وهو يرد على الأخطاء والانحرافات؛ فإنه يصاحبه في ذلك شعور بالشفقة وحب الهداية للغير لا مجرد الرد والخصومة والجدال كما هو الحال في كثير ممن يتصدى للمخالفين له أو لشيخه؛ حيث إن الأمر يصل به إلى الاعتداء في كلامه لمن يخالفه في الفروع التي يسعها الخلاف, فضلاً عن الأصول, لا لشيء إلا لأنه خالفه أو خالف شيخه وكفى.
لا تشغل قلبك بما ينالك من الأذىفبسلامة القلب ـ إخوة الإسلام ـ يتم العدل في جميع الأمور, وصاحب القلب السليم لا يؤذي المسلمين ولو آذوه، ولا ينتقم لنفسه.وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين أحد عشر مشهدًا فيما يصيب المسلم من أذى الخلق وجنايتهم عليه, نكتفي بمشهد واحد؛ حيث يقول رحمه الله: "المشهد السادس: مشهد السلامة وبرد القلب، وهذا مشهد شريف جدًا لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو أن لا يشغل قلبه وسِره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرّغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوّه منه أنفع له وألذ وأطيب، وأعون على مصالحه؛ فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه، فيكون بذلك مغبونًا، والرشيد لا يرضى بذلك ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغلّ والوساوس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام.ولابن تيمية رحمه الله رسالة كتبها إلى تلامذته بدمشق تبرز فيها هذه الصفة ـ سلامة القلب ـ بجلاء, نذكر مقاطع منها:يقول رحمه الله في رسالته لتلامذته: "وتعلمون من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين تأليف القلوب, واجتماع الكلمة, وصلاح ذات البين؛ فإن الله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}, ويقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}, وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف, وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة".إلى أن قال في الرسالة نفسها: "وأول ما أبدأ به من هذا الأصل ما يتعلق بي, فتعلمون ـ رضي الله عنكم ـ أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين ـ فضلاً عن أصحابنا ـ بشيء أصلاً, لا باطنًا ولا ظاهرًا، ولا عندي عتب على أحد منهم ولا لوم أصلاً, بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان كلٌّ يحسبه, ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهدًا مصيبًا أو مخطئًا أو مذنبًا، فالأول مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه مغفور له، والثالث فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين، فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل كقول القائل: فلان قصّر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل مثل هذا يعود على قائله بالملام إلا أن يكون له من حسنة، وممن يغفر الله له إن شاء الله, وقد عفا الله عما سلف".إلى أن قال رحمه الله في الرسالة نفسها: "فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كَذِبِه عليّ، أو ظُلمِه وعدوانه؛ فإني أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي, والذين كذبوا وظلموا في حلّ من جهتي".انتهى كلامه رحمه الله، وهو كلام عظيم يستشعر قارئه فيه الصدق وقمة التجرد من الهوى، وقلّ من يكون كذلك.. وقد قال الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي: "هيهات هيهات! إن في مجال الكلام في الرجال عقبات، مرتقيها على خطر، ومرتقيها هوىً لا منجى له من الإثم ولا وزر، فلو حاسب نفسَه الرامي أخاه ما السبب الذي أهاج ذلك؟ لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك.
كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروىونظرًا لأهمية هذه القاعدة ـ سلامة القلب والتجرد من الهوى ـ في تقويم الأشخاص والكتب كان من منهج أئمة الحديث في تقويم الرجال أن كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى، والأقران هم النظراء في المكانة والعلم أو المتنافسون في مجال ما، فهؤلاء الأقران كثيرًا ما يقع بينهم شيء من الاختلاف لأي سبب من الأسباب؛ فيؤدي ذلك إلى وقوع بعضهم ببعض دون عدل أو تأنٍّ، حتى إن الواحد منهم قد يصف صاحبه بأوصاف يعلم يقينًا أنه بريء منها، ولكنّ حبّ الذات والانتصار للنفس يزكي فيه روح الغيرة والاعتداء. ومن أجل هذا كان النقاد الجهابذة من المحدثين يهملون هذا الجرح لأنه في الغالب لا يسلم من التجرد من الهوى ولا يصدر عن سلامة في القلب.قال الإمام الذهبي: "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به, لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد... وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين, ولو شئت لسردت من ذلك كراريس".فإذا كان هذا كلام الذهبي في زمانه السالف وما قبله فكيف بحالنا اليوم؟!وقال السبكي: "الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكّوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه مِن تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه ونعمل فيه بالعدالة، ولو فتحنا هذا الباب وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة؛ إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون.
فتأمل أخي المسلم كيف كان منهج سلفنا في تقويم الأشخاص, وكيف أصبحنا اليوم نقع في الأشخاص وننقدهم النقد اللاذع, ليس لأننا رأينا أخطاءهم بالعمل, ولكن اعتمادًا على كلام أقرانهم وقدح منافسيهم فيهم, مع أن ذلك لا يصلح الاعتماد عليه في النقد والتقويم, بل يطوى ولا يروى كما قال الأئمة.ومن المهم أن ندرك أن صورة ذلك الاختلاف بين الأقران لا تقف عند المحدثين فحسب، بل تتعداه في عصرنا إلى العلماء والدعاة وشتى العاملين في حقل الدعوة الإسلامية. ولذا كان المنهج القسط أن ينظر إلى الخلفيات التي تكمن وراء الجرح والنقد، ومن ثم يوزن الجرح أو النقد بما يقتضيه الحال مع التحري والإنصاف, حتى لا يُتَّهم أحد بما ليس فيه، فليس كل جرح مؤثرًا، وليس كل اتهام مقبولاً.قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه". فتأمل كيف ابتعد الناس اليوم عن معنى هذا الكلام المستقيم؛ حيث أصبحوا يفقدون الثقة بعضهم ببعض اعتمادًا على شائعة أو اتباعًا لكلام حاسد.ومن التجرد من الهوى الفرح بإصابة الغير للحق والحزن على مجانبتهم له، ولعل هذا الأمر من أصعب الأمور؛ لأنه يمثل قمة العدل والتقوى والورع، ومما يؤسف ويحزن أننا نرى الكثيرين من دعاة المسلمين اليوم ـ فضلاً عن عامتهم ـ إذا رأوا غيرهم قد أخطأ فإنهم يفرحون بذلك, حتى يحسبونه غلبة, بل إنك ترى الكثيرين منهم يتتبع الكتابات والمقالات التي قالها غيرهم, وهمهم الوحيد هو تتبع العثرات والفرح باصطيادها, في الوقت الذي لو وجدوا خلاف ذلك ـ من إصابة غيرهم للحق ـ فإنهم يحزنون لهذه الإصابة، وهذا ـ والعياذ بالله ـ هو الظلم والحقد والحسد والذي لا يلتقي مع الإخلاص والعدل وحب الخير للناس، وما أحسن الحكاية التي ذكرها ابن رجب رحمه الله حول هذا الأمر؛ حيث قال: "وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: (أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحد إلا قطعته, فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال: بثلاث؛ أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه. ـ أو معنى هذا ـ فقال أحمد: ما أعقله من رجل).و الله تعالى أعلم ، و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالمصريون

حرص الأولين على الصلاة

وكان السلف الصالح يستحبون الأناة في كل شيء ، إلا في الصلاة ، فقد قيل للأحنف بن قيس رضي الله عنه : ( إن فيك أناة شديدة ) فقال : ( قد عرفت من نفسي عجلة في صلاتي إذا حضرت حتى أصليها ) [1]
وكان المحدث الثقة بشر بن الحسن يقال له : ( الصَفّي ) ، لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة [2].
و مثله : إبراهيم بن ميمون المروزي ، أحد الدعاة المحدثين الثقات من أصحاب عطاء بن أبي رباح ، وكانت مهنته الصياغة و طرق الذهب و الفضة . قالوا : ( كان فقيهاً فاضلاً ، من الآمَّارين بالمعروف . وقال ابن معين : كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها ) [3].
وقيل لكثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط وقد أمَّ أهل حمص ستين سنة كاملة ، فقال : " ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله " [1]
وقال قاضي قضاة الشام سليمان بن حمزة المقدسي ، وهو من ذرية ابن قدامة صاحب كتاب المغني : " لم أصلّ الفريضة قط منفرداً إلا مرتين ، وكأني لم أصلهما قط " [2]
مع أنه قارب التسعين .
و الداعية السعيد من يتأمل و يقتدي.

أجب نبيك صلى الله عليه وسلم

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من تطهر في بيته ، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله ، كانت خطوتاه أحدهما تحط خطيئة ، والأخرى ترفع درجة ) [1]
وقال : ( من غدا إلى المسجد وراح أعدّ الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح ) [2]
وقال : ( أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى ، و الذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام )[3]
و عن جرير رضي الله عنه قال : ( بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة ) [4]
و سأله ابن مسعود : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) [5]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها و خشوعها و ركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأتي كبيرة ، و كذلك الدهر كله ) [6]
وكانت آخر ابتسامة للنبي صلى الله عليه و سلم في الدنيا : ابتسامته للصلاة ، و ذلك لما كشف ستر الحجرة يوم الإثنين فرأى أبا بكر يؤمّ الصفوف .
وحث على صلاة الفجر وصلا ة العشاء فقال : ( من صلى البردين دخل الجنة ) [7]
وقال – وقد نظر إلى البدر - :
( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس و قبل غروبها فافعلوا . ثم قرأ : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب }[1]
و قال : ( الذي تـفوته صلاة العصر كأنما وُتِرَ أهله و ماله ) أي فقدهما ، وفي لفظ : ( من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ) [2]
فأنت أيها الداعية ما بين ترهيب ينذرك النبي صلى الله عليه و سلم فيه حبوط العمل وترغيب يشوقك فيه إلى قصور الجنة و رؤية الله فيها ، فأجب ، و إنه لثمن يغري و يطمع و يحرص عليه قبل الكساد ، وكن عند حسن ظن الفضيل ابن عياض فإنه تحدى وقال : ( ما حليت الجنة لأمة ثم لا ترى لها عاشقاً ) ، عاشقاً يخرج من أجلها في البردين ، وقل له : إني أنا العاشق .
فإن وجدت من نفسك ثقلاً و تكاسلاً فهناك مخاطبة لطيفة يمكن لك أن تخاطب بها نفسك فتـقول : هب أنك من العسكريين ، أو من عمال المخابز ، أو الصيادين أو .. ، أما كان يجب عليك التبكير في الاستيقاظ قبل الموظف و الطالب طاعة للنظام العسكري أو تـنافساً في طلب الرزق ؟ فالله سبحانه أحق أن يطاع ، وصلاة الفجر أحق أن ينافس فيها . فبمثل هذه المخاطبة لنفسك يحصل الحث لها إن شاء الله إن تراخت واستأنست بالنوم .
و إذا ألممت بذنب أو خطأ فاستدرك بالركوع ، فإن داود عليه السلام لما جاءه الخصم يختصمان في النعاج انتبه و استدرك و وصف الله تعالى انتباهه فقال : { وظن داود أنما فتـناه فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب * فغفرنا له ذلك ) [3]فجعل الاستغفار و الركوع طريقة ، يعلم بذلك الدعاة أن يركعوا

ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها, وما يمسك فلا مرسل له من بعده , وهو العزيز الحكيم


قال صاحب الظلال رحمه الله في تفسير هذه الاية(( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ، وهو العزيز الحكيم } . .في هذه الآية الثانية من السورة صورة من صور قدرة الله التي ختم بها الآية الأولى . وحين تستقر هذه الصورة في قلب بشري يتم فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة جميعاً .إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والأرض وتصله بقوة الله . وتيئسه من مظنة كل رحمة في السماوات والأرض وتصله برحمة الله . وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض وتفتح أمامه باب الله . وتغلق في وجهه كل طريق في السماوات والأرض وتشرع له طريقه إلى الله .ورحمة الله تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد؛ ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكوينه ، وتكريمه بما كرمه؛ وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته؛ وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير .ورحمة الله تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح . ويجدها من يفتحها الله له في كل شيء ، وفي كل وضع ، وفي كل حال ، وفي كل مكان . . يجدها في نفسه ، وفي مشاعره؛ ويجدها فيما حوله ، وحيثما كان ، وكيفما كان . ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان . . ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء ، وفي كل وضع ، وفي كل حالة ، وفي كل مكان . ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان!وما من نعمة يمسك الله معها رحمته حتى تنقلب هي بذاتها نقمة . وما من محنة تحفها رحمة الله حتى تكون هي بذاتها نعمة . . ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله فإذا هو مهاد . وينام على الحرير -وقد أمسكت عنه فإذا هو شوك القتاد . ويعالج أعسر الأمور برحمة الله فإذا هي هوادة ويسر . ويعالج أيسر الأمور وقد تخلت رحمة الله فإذا هي مشقة وعسرويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام . ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار!ولا ضيق مع رحمة الله . إنما الضيق في إمساكها دون سواه . لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن ، أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك . ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم ، وفي مراتع الرخاء . فمن داخل النفس برحمة الله تتفجَّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة . ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة!هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب ، وتوصد جميع النوافذ ، وتسد جميع المسالك . . فلا عليك . فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء . . وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك فما هو بنافع . وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء!هذا الفيض يفتح ، ثم يضيق الرزق . ويضيق السكن . ويضيق العيش ، وتخشن الحياة ، ويشوك المضجع . . فلا عليك . فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة . وهذا الفيض يمسك . ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء . فلا جدوى . وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء!المال والولد ، والصحة والقوة ، والجاه والسلطان . . تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله . فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان .يبسط الله الرزق مع رحمته فإذا هو متاع طيب ورخاء؛ وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة . ويمسك رحمته ، فإذا هو مثار قلق وخوف ، وإذا هو مثار حسد وبغض ، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض ، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار .ويمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع ، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله . ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء ، وسهر بالليل وتعب بالنهار!ويهب الله الصحة والقوة مع رحمته فإذا هي نعمة وحياة طيبة ، والتذاذ بالحياة . ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي ، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح ، ويدخر السوء ليوم الحساب!ويعطي الله السلطان والجاه مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح ، ومصدر أمن ، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر . ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما ، ومصدر طغيان وبغي بهما ، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار ، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان ، ويدخر بهما للآخرة رصيداً ضخماً من النار!والعلم الغزير . والعمر الطويل . والمقام الطيب . كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال . . مع الإمساك ومع الإرسال . . وقليل من المعرفة يثمر وينفع ، وقليل من العمر يبارك الله فيه . وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة .والجماعات كالآحاد . والأمم كالأفراد .

الأربعاء، 12 أغسطس 2009

غبر قدميك

أخي الداعية أنت تطلب رضوان الله و تخطب جنة عرضها السماوات و الأرض و من يخطب الحسناء لم يغلها المهر . أخي الداعية طريق الدعوة شاق مضنٍ فيه عقبات و عقبات و لكن ما ترجو قطافه من ثمراتها و تطلبه من رضوان الله جنته يسهل عليك كل العقبات . قال ابن القيم رحمه الله : [ المصالح والخيرات واللذات و الكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب و قد أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم و أن من آثر الراحة فاتته الراحة و انه بحسب ركوب الأهوال و احتمال المشاق تكون الفرحة و اللذة ، فلا فرحة لمن لا هم له ، و لا لذة لمن لا صبر له و لا نعيم لمن لا شقاء له و لا راحة لمن لا تعب له ، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة والله المستعان ولا قوة إلا بالله وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلا كان تعب البدن أوفر وحظه من الراحة أقل كما قال المتنبي :
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
و لا ريب عند كل عاقل أن كمال الراحة بحسب التعب ، و كمال النعيم بحسب كمال المشاق في طريقه , و إنما تخلُص الراحة و اللذة و النعيم في دار السلام فأما هذه الدار فكلا و لمّا ]مفتاح دار السعادة ص(372 ـ373) و قال رحمه الله : [وهل وصل من وصل إلى المقامات المحمودة والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء كذا المعالي إذا ما رمت تدركها *** فاعبر إليها على جسر من التعب ] مفتاح دار السعادة ص (352). و قال رحمه الله : [ فالمكارم منوطة بالمكاره ، و السعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة فلا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد و الاجتهاد . قال مسلم في صحيحه قال يحي بن كثير : لا ينال العلم براحة الجسم . و قد قيل من طلب الراحة ترك الراحة .
فيا وصل الحبيب أما إليه *** بغير مشقة أبداً طريق
ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف ولكن حفت بحجاب من المكاره وحجبوا عنها بحجاب من الجهل ليختص الله لها من يشاء من عباده والله ذو الفضل العظيم ] مفتاح دار السعادة ص( 130 ـ 131) و قال محمد الراشد :[ حين وصل معاوية بن خديج المدينة ظهراً مبشراً أمير المؤمنين بفتح الإسكندرية مال إلى المسجد ظاناً أن عمر في قيلولة ، فأرسل إليه عمر ، فقال له : ( ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد ؟ قال : قلت إن أمير المؤمنين قائل . قال : بئس ما قلت ، أو بئس ما ظننت ، لئن نمت النهار لأضيعنَّ الرعية ، و لئن نمت الليل لأضيعنَّ نفسي ، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية ؟ ) و هي كذلك و الله . فأنّى للداعية كثرة النوم و الراحة ؟ إن نام أو استراح بالنهار : ضيع أنصار دعوته و محبيه و الناشئة التي تكفل بتربيتها . و إن نام آخر الليل : ضيع نفسه . كلا ، إن الداعية بمجرد قبوله هداية الله و انخراطه في الصف فقد اختار التعب ، و طلق الراحة و الدعة و اللهو المباح و لذلك لما قيل لأحد السلف : ( ما الذي ينقص العزم ؟ قال طول الآمال ، و حب الراحات ... ) ] المسار ص( 165) وقال أيضاً :[ يلزمك أن تعرف أن علامة التوفيق : الكد و التعب و السهر , و لذة الأحرار إنما يفجّروها البذل ، و لو عرف المتخلف المنعزل ما يغمر المتلِفَ لنفسه في الله من نشوة و فرح غامر لزاحمه و سابقه و نافسه و لكن فاقد الشيء لا يعطيه ] .صناعة الحياة ص(112) و قال أيضاً : [ كان الحسن البصري يردد : إن هذا الحق ثقيل,وقد جهد الناس وحال بينهم ,وبين كثير من شهواتهم ,وإنه ـ والله ـ ما يسير على هذا الحق إلا من عرف فضله ,ورجا عاقبته . فمن عرف جمال العاقبة ولذتها سار ومن سار سافر ومن سافر جاب ومن جاب تغبر فمن ثم لا يصدق اصطلاح {الداعية} إلا على من كان أشعت وتلك هي ملامح صورته التي رسمها الشاعر فمن نظر إلى داعية مسلم وجده:
أخا سفر جواب أرض تقاذفت به فهو أشعت أغبر
فهو غير قاعد فضلاً عن أن يكون راقداً وإنما يصرف ساعات ليله و نهاره في التجوال داعياً آمراً ناهياً مربياً حاشداً ، فإذا رجع إلى بيته عند منتصف الليل ، و رأى الغبار يعلوه ابتسم فمه و ضحك قلبه و قال لنفسه : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ) فينام مسروراً بما جمع من هذا الغبار ، و ينام غيره مسروراً بما رصد في البنوك من دولار ، و دينار ] بوارق دعوية ص(91) أخي الحبيب يكفي الداعية إلى الله عز وجل و هو يقوم بدعوته و يواجه المشاق و يتكبد العناء و يرى الباطل و هو ينتفش يكفيه أنه يملك من عناصر القوة مالا يملكه خصومه و أعداؤه يقول الشيخ محمد الدويش :[ إن الدعاة إلى الله تبارك وتعالى -بغض النظر عن ضآلة إمكاناتهم- يملكون جوانب من القوة لا يملكها غيرهم، ومنها: أولا : توفيق الله وإعانته، فالأمور كلها بمشيئة الله عز وجل، ونواصي الخلق بيده، وقد كتب الغلبة والتمكين لأوليائه (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) . ثانيا : الدعاة وحدهم هم الذين يدعون الناس إلى طريق الفطرة التي فطر الناس عليها، وإلى المنهج الذي يتفق فيه الشرع والعقل ولا يتعارضان. ثالثا : أنهم يرفعون صوتهم عاليا، ويعلنون أهدافهم بوضوح، ويفتخرون بسيرهم في هذا الطريق، بخلاف غيرهم الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون. رابعاً : أنهم على خير إن أصابتهم سراء وتمكين شكروا، وإن أصابتهم ضراء صبروا واحتسبوا وراجعوا أنفسهم، فكان ذلك كله خيراً لهم. خامسا : أنهم محفوفون بتأييد عباد الله وأوليائه الصالحين، فهم يرفعون أكف الضراعة لهم ويسألون الله عونهم وتوفيقهم، وكم في هؤلاء من لو أقسم على الله لأبره؟ وإنما ينصر الناس ويرزقون بضعفائهم. أيها الدعاة إلى الله: أنتم الأقوى لو تعلمون فسيروا في طريق الخير، وانشروا دعوة الإسلام في أرجاء المعمورة (ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ] موقع المربي(
http://www.almurabbi.com/). الخاطرة الثانية أخي المبارك هيا غبر قدميك , هيا بنا نزرع الخير و نغرس المعروف و نشر الدعوة إلى الله عز وجل في كل مكان و قل كما قال القائل :
قم نعد عدل الهداة الراشدين *** قم نصل مجد الأباة الفاتحين قم نفك القيد قد آن الأوان *** شقي الناس بدنيا دون دين فلنعدها رحمة للعالمين *** لا تقل كيف ؟ فإنا مسلمون يا أخا الإسلام في كل مكان *** اصعد الربوة واهتف بالآذان وارفع المصحف دستور الزمان *** واملأ الآفاق إنا مسلمون مسلمون مسلمون مسلمون *** حيث كان الحق والعدل نكون نرتضي الموت ونأبى أن نهون*** في سبيل الله ما أحلى المنون
أخي المبارك ما أجمل حياة الدعاة حياة أوقفت لله حياة العطاء والنماء حياة البذل والفداء يضحي الداعية بكل ما يملك يضحي بوقته و راحة بدنه و ماله و يبذلها كلها بنفس طيبة رضية فداءاً لدينه و ما أجمل قول القائل :
سواد العين يا ديني فداك **** و قلبي لا يود سوى علاك نشأت على هواك فتىً و فياً **** و ما عودتني إلا وفاك رضعت مع الحليب هواك صرفاً **** فعززني و شرفني هواك سأبذل مهجتي و دمي و قلبي **** فذى شرف تسلسل في دماك سأنشر في الورى ذكراك حتى **** يفوح بكل ناحية شذاك عليك وقفت يا ربي حياتي **** و ما أشهى المنية في رضاك
جعلنا الله دعاة إلى دينه هداة مهتدين غير ضالين و لا مضلين .اللهم توفنا مسلمين و ألحقنا بالصالحين اللهم و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين و صلى الله و سلم على نبينا الأمين .
محبكم : شائع محمد الغبيشي